2021/12/08
  • الواجب الاجتماعي من منظور ديني وإنساني
  • عندما نقول: " واجب "؛ فإننا نعني ذلك الالتزام الأخلاقي الذي تحققه السلوكيات والأفعال بعيدًا عن الشعور المجرد والتقدير المُفرَغ، وعلى هذا المفهوم للواجب يكاد يجمع المفكرون والفلاسفة على اختلاف ثقافاتهم، فقيم الواجب ومظاهره تختلف من ثقافة إلى أخرى، ولتجاوز هذا الاختلاف والنظرات المتباينة للواجب، يمكننا النظر إليه كمصطلح للوصف الوظيفي أو السلوك، وبمعنى آخر:
    الواجب ليس فقط تعبيرًا عن فعل الأشياء بالطريقة الصحيحة بل عن فعل الشيء الصحيح.

    وغالبًا ما يُفهم الواجب على أنه ما يدين به الشخص لبلاده أو لموطنه " الوطنية " أو لمجتمعه، وعليه؛ فإن الواجب الاجتماعي أو المدني من الممكن ـ حسب هذا المفهوم ـ أن يشمل:
    المسارعة لمساعدة ضحايا الحوادث وجرائم الشوارع والحضور كشاهد لاحقًا في المحكمة، وإبلاغ سلطات الصحة العامة عن الأمراض المعدية أو الأوبئة، والتصويت أو الوقوف في الانتخابات، ومواكبة القضايا الحالية، ودفع الضرائب، والتطوع للخدمات العامة مثل تدريبات الإنقاذ، والتبرع بالدم، وغير ذلك من الأعمال التي تعود بالنفع على المجتمع.
    وليس هناك أدل على الانسان من عيشه في المجتمع وللمجتمع، فلا إنسانية مع العيش الانفرادي أو العزلة، لأن ذلك يجعل الإنسان حيوانًا في فكره وتصرفاته، فالحيوان هو الذي لا يفكر إلا بنفسه و أولاده فقط، ولا يهتم لشأن سائر الحيوانات، فيعمل ويصطاد ويركض هنا وهناك ليملأ بطنه ويسد جوعه وجوع أولاده الصغار الذين إذا كبروا هجرهم ليهتم كل واحد منهم بنفسه مكررًا صنيع أبيه في بيئة مجردة من كل المبادئ والأخلاق والقيم النبيلة، وكافرة بالآخر كفرًا صراحًا بواحًا، فهي لا تؤمن إلا بالأنا، فالذات إلهها الذي لا شريك له.

    أما الإنسان؛ فعلامته الحياة الضمنية مع بني جنسه، كحياة أحد أعضاء الجسد مع سائر الأعضاء، يقول المنفلوطي في " النظرات ": "حياةُ الإنسان في هذا العالَم حياةٌ ضمنية مُدخَلةٌ في حياةِ الآخرين، أكثرُ الناس يعيشون في نفوسِ الناس أكثرَ مما يعيشون في نفوس أنفسهم".

    هذه هي حقيقة الإنسان التي بها يفترق عن الحيوان، ومن أرض تلك الحقيقة تخرج شجرة الواجب الطيبة الخضراء الوارفة، بأصلٍ ثابتٍ، وفرعٍ في السماء، تؤتي أكلها كل حين لكل عضو من أعضاء المجتمع الإنساني.
    وليس لأي إنسان الحق في القول: ( وما علاقتي بالآخرين، مالي ولهم )، فلو تحقق ذلك الشعور والتقدير لخرج من إنسانيته إلى حيوانية الحيوان، ولك أن تتصور كيف لو خرج أحد أعضاء الجسد عن ذلك الكل الواحد المتفاني في مساعدة ومساندة ورعاية بعضه البعض، فإذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.

    وعلى كل فرد في المجتمع أن يعمل ما يمكنه أو ما يحسنه ويتقنه بالطريقة التي تحقق الفائدة والمنفعة لمن حوله من أفراد المجتمع، وبذلك يكون:
    دفع الخطر عن المجتمع وأفراده واجبًا، واختيار الشخص المناسب الذي سيؤدي مهامه تجاه المجتمع واجبًا، ومنع تلوث المياه بالمكافحة والتوعية والتثقيف واجبًا، وإماطة الأذى عن الطريق واجبًا، ومد يد العون للمحتاج واجبًا، وإطعام الجائع المسكين واجبًا، وتعهد الجار المتعفف واجبًا، وزرع البسمة في وجه طفل يتيم واجبًا، والوقوف بجانب المستضعفين واجبًا، ونصرة المظلوم واجبًا، وقول الحق واجبًا، ومساعدة العاجز والمريض واجبًا، وعدم رمي المخلفات في الشوارع والأماكن العامة واجبًا، واجتناب تعطيل مصالح الناس وعرقلة أو إعاقة حركة السير أثناء قيادة السيارة واجبًا، ومخاطبة الناس بالتي هي أحسن واجبًا، وعدم الفجور في الخصام واجبًا، و تحرّي الصدق واجبًا، ومقابلة الإساءة بالإحسان واجبًا، والحفاظ على الأشجار العامة في الشوارع والطرقات والحدائق وغيرها واجبًا، وزراعة شجرة أمام منزلك ـ بشكل قانوني ـ واجبًا، والعفو والتسامح واجبًا، وعدم أذية الآخرين واجبًا، والإبلاغ عن الجريمة والتعاون مع السلطات واجبًا، حتى الرفق بالحيوان والإحسان إليه واجبًا، وكل فعل يمليه الدين بما يحمله من أخلاق وقيم وتعاليم سامية بعيدًا عن السياسة واجبا.

    وبالنظر في جوهر الإسلام، الدين الذي أراده لنا الله سبحانه، وبينه عبر أنبيائه ورسله الذين كان خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم " إن الدين عند الله الإسلام "؛ نجد أن تعاليم الإسلام في مجملها تتلخص في كلمة واحدة هي " الإحسان ": الإحسان في علاقتنا مع الله، والإحسان في علاقتنا مع أنفسنا، والإحسان في علاقتنا مع الآخرين من حولنا، سواءً في المحيط الأسري أو المحيط المجتمعي أو المحيط الإنساني أو حتى المحيط الوجودي برمَّته.

    فمن أنت أيها الإنسان حتى تسيء ولا ترعوي...! إياك والإساءة بأي شكل من الأشكال، فالنعيم والسكينة والطمأنينة والنجاة والسعادة أمانٍ لا تتحقق ولا تُنَال إلا بالإحسان في الأخلاق والمعاملة والعشرة.
    أفلا تدفعك إنسانيتك وأخلاقك للاهتمام بالآخرين؟فلو اهتم كل إنسان بمن حوله وآزرهم؛ فلن يضيق الأمر بأحد، ولن يعاني أحد، بل سيسير الجميع نحو الرقي والسعادة.

    وإذا كان لك " في كلِّ كبدٍ رطبةٍ أجر "، في كل بهيمة أحسنت لها بسقي، أو إطعام، أو وقاية من حر، أو وقاية من برد، سواءً كانت لك أو لغيرك من بني آدم، أو كانت من السَّوائب ـ لك في ذلك أجر عند الله سبحانه؛ فكيف بالآدميين؟ لا ريب أن إحسانك إلى الآدميين هو أشد وأكثر أجرًا، وفي هذا السياق إليك بعضًا من تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف التي وردت على لسان من قال الله تعالى فيه " وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين ":
    ـ لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
    ـ الدين المعاملة.
    ـ إنما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ مكارم الأخلاق.

    لذلك يجب عليك أيها الإنسان أن تدرك حقيقة العبادة بمفهومها الشامل، فهي لا تقتصر على طقوس أو شعائر بعينها، كالصلاة والصيام والحج وغيرها من الممارسات التعبدية التي تعمل على إصلاح وتهذيب العلاقة مع الله عز وجل، وإنما هي تلك الطقوس والشعائر بالإضافة إلى كل عمل قُصِدَ به وجه الله سبحانه وتعالى، حتى النومة تنامها لصلاح نفسك وصحتك في سبيل تحقيق ما كلفك الله به ضمن مهمة الاستخلاف؛ تكون بذلك عبادة، وبهذا المفهوم؛ إذا لم يتحقق الصلاح والخير من العبادة فهي لا تتعدى كونها طقوس شكلية، وعادات محضة.
    ومن منطلق الصلاح بما له من دلالات حضارية عميقة؛ ليس الإنسان الصالح من يقتصر صلاحه على نفسه بممارسات تعبدية لا يتجاوز نفعها حدود الذات، ولكن تبقى هناك خطوات أخرى إلى جانب صلاح الذات، وبها يمتد الصلاح ويتعدى حدود وأسوار عالم الذات إلى عالم الآخر، بدءًا من المؤمن الصالح إلى المواطن الصالح إلى الإنسان الصالح، فالمرأة التي ذُكِرَت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها؛ قال: " هي في النار ".

    وبعد هذا كله؛ يجب أن تعود جهودك بالفائدة على المجتمع، عندئذ سيعطيك المجتمع أجرك، فالمجتمع كالجسد وأنت كاليد التي تحمل الطعام لا لتأكله هي، بل لتوصله إلى الفم لينقله إلى الجسد، ثم لتستفيد منه جميع أعضاء الجسد، وتنال اليد حصتها من خلال الجسد.

    واعلم أن السعادة الحقيقية ليست في مال ولا جاه ولا منصب، ولا بتحقيق الرغبات والملذات والمصالح الفردية، ولا تُبنَى على هموم الآخرين وأحزانهم وآلامهم، ولكن تُبنَى على إماطة هذه الأوجاع عن حياتهم، فلتُجَرّب شعور أنْ تجعل يتيمًا يبتسم يوم العيد، أو أنْ تُصلح الثقة في نفس أحدهم بعد أنْ كسرتها أيدي اليأس بحجارة الفاقة والحرمان، أو أنْ تقضي حاجة محتاج كادت رياح الفقر أنْ تذره رمادًا، أو أنْ تُشبع جائعًا ليس له طعام غير خبز الذلِّ وحلوى العفاف، أو أنْ تُعالج مريضًا أُغلِقَتْ في وجهه أبواب المشافي والصيدليات...فلو جرّبت هذا الشعور لعرفت معنى السعادة.

    وأخيرًا: اصنع لنفسك حياة أخرى في نفوس الآخرين، وابنِ لك في قلوبهم منازلًا، فما عُمرُك إلا الذكرى الطيبة والأثر الجميل الذي تتركه بعد موتك، ولا تقل بيتي أو منزلي، فسوف تتركها ـ وبالأصح تنبذك ـ ويدخلها غيرك، بينما تلك المنازل النابضة لن تكون لسواك حتى وإن رحلت أو صرت ترابا.

    #عبدالسلام_المساري

    تم طباعة هذه المقالة من موقع شبكة بويمن الإخبارية www.buyemen.com - رابط المقالة: http://boyemen.com art 6343.html