2020/06/11
  • عائلة في الجنة وعائلة في النار !
  • أخيرًا .. احتضن عبدالله قابل بجناحيه روح أبيه، وصعدا معًا إلى الفردوس، هناك كان ضوء باسم ينتظرهما، قال عبدالله : هذا أبي يا رسول الله .

     
     وصل محمد العزي قابل إلى الجنة، ينتظره نجله الحبيب عبدالله بهيئة ملاك كامل البهاء، ظل الأب في حيرة طوال رحلة الانتقال إلى الحياة الآخرة، هل سيجد ابنه كما هو ؟، هل سيعرفه؟، هل ما تزال ملامحه تلك التي ألفها ورعاها في كنفه عشرين عامًا ؟ وغشاه السؤال كما غشاه الكفن الأبيض، وبعد زمن ليس بالقصير ألفاه لدى باب الجنة كما كان، وقد برأت جروحه وأنارت ملامحه ركن القصر الذي يبيتان فيه يومهما الأول . ومن هناك ثقب محمد العزي قابل بنظر من حديد مسارًا نحو الأرض، رأى جنازته محمولة بين أذرع أهله وأصدقائه، شاهد زوجته تنوح ثكلى عليه، وعلى وليدها الذي استخدمه الحوثيون درعًا بشريًا في مواجهة الغضب العربي، رآها ترفع ضرتها إلى السماء باكية شاكية، وانسابت من عينيه دمعة قهر بالغة المدى وقعت من حيث يسكن على شرفة مطلة على نهر من عسل مصفى مخترقة الزمن والمكان والكواكب، حتى وصلت فرحة تتلوى إلى كفي زوجته، فصكت وجهها وانبعث رائحته من جديد، وتبسّمت، كأنها عرفت البشرى بقول دامع : لا تحزني أنا هنا مع عبدالله في الفردوس الأعلى .

    وجاء جناح عبدالله يمسح الدمع عن وجه أبيه، فحمله على ظهره وطاف به عالم الفردوس الذي لا ينتهي، هناك رأى الأنبياء مستبشرين ضاحكين، رأى القصور والخلود، رأى الحياة التي تستحق الفوز بعيدًا عن وحشية الظالمين، شاهد الأنقياء الأتقياء يسيحون في النعيم رؤيا العين، وضحكته تملئ الجنة ساخرة من قاتليه الملعونين .

    *.     *.     *

    عرفت محمد العزي قابل في دكان والدي، عرفته بمعية عبدالله، جاءا إليّ يبغيان شراء مجموعة من الملابس المميزة لوظيفة الأب الجديدة، كان مديرًا ماليًا في مستشفى ذمار العام، وكانت تلك الأيام شديدة الجدل حول تداعيات الأزمة اليمنية بعد أحداث 2011م المأساوية، وكان "عبدالله" مندفعًا مشاكسًا، بريئًا، يلمزني بضحكات ساخرة حول كتاباتي التي لا ينتهي جدلها معه، وكان الأب حاضرًا ذكيًا باسمًا، وفي عينيه ضحكة تكاد تطفو من الفخر بابنه الذي يكتب منافسًا من قبله، ومحاورًا جريئًا في شاشات التلفزة .

     
    كانت علاقتهما معًا أشبه بصديقين حميمين، وأنا خجول في ردودي أمام الأب الذي أشاح بكفه في وجه ابنه فابتعد ضاحكًا، وعاد ليبايعني على سعر البدلة الأنيقة وقميصها الحريري الشفاف، وربطة عنق زاهية أثارت إعجابه قائلًا بخفة دم واضحة : كان عليك أن تكون بائع ملابس فقط !.

     
    وليتني عملت بنصيحته، فما كان حالنا في الهجرة هكذا، كلما اقتربت صنعاء ابتعدت، ولعله خير، وقد كرر عبارته بمزحة حانية من أخ بدى كبيرًا برأفته ولطفه وعطفه وقتئذ جلسنا على عتبة السجن مبتسمًا ببهاء فتى كان يستعد للموت الذي لم يفهمه، وكدت أراه في عينيه، فحذرته من الحوثيين وقسوتهم وجرأتهم على الدم، فلم يبد اكتراثًا لهم، كأن روحه المتمسكة بالحرية والكرامة كانت تدفعه إلى الجنة دون أن يدري، وهذا قدر الصالحين السعداء .
     

    بعد أربعة أعوام من رحيله المأساوي، اقتحم الحوثيون منزلهم عند صلاة الفجر، كانت أمه بلباس الصلاة تركع في محرابها مثل سيدة يأتيها رزقها بإذن الله، وابنائها حولها يصلون، ولما سمعوا خبط أقدام المحتلين، توزعوا إلى الدفاع عن شقيقاتهم ووالدتهم، وتسلل أسامة النجل الأصغر عبر باب خلفي إلى الشارع، متحررًا من كيد وشاية جارهم الهاشمي الذي كُلف بالتلصص على عائلة مجيدة مناضلة، جريرتها الوحيدة أنها تملك فائضًا لا ينقطع مثل محيط عميق عظيم من الكرامة والإباء والشموخ، وقُبض على عبدالرحمن ومحمد وعبدالرزاق، وكان الأب في موقع آخر، وهكذا كانوا يعيشون متفرقين لا يجتمعون إلا لماما وفق احتياطات السلامة طوال سنين الاحتلال الهاشمي لمدينة ذمار.
     

    وخلال فترة اعتقال الأبناء الآخرين، هوى قلب الأب، وصار مكلومًا حزينًا خائفًا على فجيعة أخرى قد تصيبهم فتُلحقهم بـ "عبدالله" - أحب أولاده إليه - فعزم على التواصل مع "حمود عباد" الذي خدعه بكمين أعدّه مع "عبدالمحسن طاووس" على وعد إخراج الولدين المختطفين بتعهد منه، وجاء إليهما بقدميه، فسجناه بداخل ثلاجة تبريد حتى يعترف بمكان ابنه أسامة، ولم يكن يعلم حقًا أين هو، فانهارت صحته، وتجمدت عروقه، وبعد خمسة أيام من التعذيب والقهر والسجن البارد، أخرجوه محمولًا على الأكتاف، وحاول أهله إسعافه فأبى !، كان يردد كلمة واحدة : أنا ذاهب إلى عبدالله . وظل يرددها، حتى سمعها عبدالله، وبقي هناك عند باب الجنة بانتظار أبيه ليضحكا معًا كما كانا يفعلان منذ أربع سنوات .

     
    في الزمن القادم سيموت "حمود عُباد" حتمًا، فالموت هو الوعد الذي لا بد منه لإنهاء ظلم الظالم، وغنى الغني، وضعف الضعيف، سينتقل على الفور ملتحقًا بابنه "علي" في الدرك الأسفل من النار، وعلى شرفة اللهب المستعر سيرى من بعيد محمد العزي قابل يطير في الجنة بجناحين أبيضين محاطًا بهالة نور عظيمة، محلقًا في جنات النعيم وحوله يدور عبدالله مثل كوكب دري جميل،


    حينئذ سيصرخ حمود عباد قائلًا : يا ليتني قدّمت لحياتي .

    ويأتيه صوت من الجنة : فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون .

    صدق الله العظيم


    وإلى لقاء يتجدد ،،


    * كاتب وصحافي من اليمن

    تم طباعة هذه المقالة من موقع شبكة بويمن الإخبارية www.buyemen.com - رابط المقالة: http://boyemen.com art 6222.html