عبدالناصر المودع

عبدالناصر المودع

الحكم في اليمن؛ إطعام للخراف وليس رقص مع الثعابين

2021-09-04 الساعة 16:44

 

كان الرئيس السابق صالح تستهويه مقولة أن حكم اليمن أشبه بالرقص على رؤوس الثعابين، في إشارة إلى أن الطبقة السياسية في اليمن هي خطرة كالثعابين؛ فإن لم تكن داهية ولاعب بارع لدغتك. قد تكون هذه المقولة صحيحة في بعض الفترات من تاريخ اليمن وبعض مناطقه، أما في تاريخ اليمن الحديث، وتحديدا بعد وصول (صالح) للسلطة فإن حكم اليمن أصبح في غاية السهولة، لمن يعرف شفرة الحكم، التي طبقها (صالح) وأضاف عليها خليفته (هادي) بعض العناصر.

حين يتم تفعيل شفرة الحكم يستطيع أي حاكم مهما بلغ سوئه وجهله وضحالته أن يحكم دون أي معارضة تذكر. فالطبقة السياسية اليمنية والذي كان يسميهم صالح بالثعابين هم في حقيقتهم أقرب إلى الخراف وليس الثعابين، فالغالبية العظمى من هذه الطبقة يكفي أن يحصلوا على جز يسير من السلطة والثروة، فيصبحوا خراف أليفة، مهما بدا على بعضهم من مظاهر الأسود والضباع، أو الأخلاق أو النزاهة والوطنية. فبمجرد أن يرمي الحاكم لهؤلاء بقليل من العلف (مال،سلطة، وظيفة عامة، مناقصة الخ..) يصبحون نعاج طيعة ما استمر في إطعامها، وقد يتحولون إلى ثعابين إذا احرمهم من العلف أو وجدوا مُطعم أفضل منه.

لمدة ثلث قرن حكم صالح اليمن، بكل سهولة ودون معارضة تذكر، باستثناء حالات نادرة، رغم أنه لم يكن يمتلك أي مؤهلات علمية، أو شرعية دستورية متينة، أو إنجازات تذكر، ويرجع السبب في ذلك إلى شفرة سهلة اكتشفها صالح بنفسه، وأمده بها أهل الخبرة، لحكم اليمن.

تقوم هذه الشفرة على قواعد سهلة أهمها: 

  • السيطرة المطلقة على مصادر القوة والنفوذ من خلال منصب الرئيس، ووضع أهل الثقة وتحديدا من الأقارب (الأسرة الصغيرة والقبيلة) في المناصب الحساسة. 

  • توزيع جزء من المناصب، والمنافع بقدر لا يهدد سلطة الحاكم، على كل من له نفوذ أو سلطة في المجتمع، ويشتمل هؤلاء على: شيوخ قبائل، قادة عسكريين، رجال دين،  رجال أعمال، رجال إدارة، وإعلاميين، و "مثقفين" وغيرهم. 

  • إشراك أصحاب النفوذ في منظومة الفساد التي يديرها الحاكم، ويشمل ذلك: توزيع المناقصات والمزايدات العامة عليهم، والعمالة والارتزاق من الخارج، شريطة أن لا تكون موجهة ضد الحاكم، والسماح لهم بالأعمال غير المشروعة، كتهريب السلع من وإلى اليمن، والاتجار بالأسلحة والمخدرات والخمور وغيرها. 

وبحسبة بسيطة يمكن للحاكم في اليمن أن يحكم من خلال احتكار جميع المناصب العسكرية والأمنية الحساسة للأهل وأبناء القبيلة أو القرية ومن في حكمهم، وتوزيع المناصب والوظائف الأقل أهمية على أفراد الطبقة النافذة بحسب حجم وأهمية كل فرد منهم، والسماح لكل هؤلاء بالفساد. في الوقت نفسه؛ على الحاكم أن يخصص جزء من موارد الدولة على كل النافذين الذين ذكرناهم، لشراء ولائهم؛ وما تبقى من هذه الموارد يتم إنفاقه على الخدمات والوظائف الضرورية للدولة وتحديدا أجهزة الضبط وأجهزة تحصيل الموارد، والتي تساعده على الاستمرار.

يرجع سهولة حكم اليمن إلى غياب أي ضوابط للتحكم في الثروة والسلطة من قبل الحاكم؛ فليس هناك من قيود قانونية حقيقية تحد من سيطرة الحاكم على الثروة العامة وكذلك الوظيفة العامة. وليس هذا وحسب؛ فالحاكم في اليمن يحصل، وبشكل شبه علني على أموال شخصية من الدول الأخرى، وهو الأمر الذي يعد عملا من أعمال الخيانة وفقا للدستور اليمني نفسه. 

كما أن الثقافة العامة، والتي تم نشرها من قبل الحاكم والطبقة النافذة، تقبل بأن يتصرف الحاكم بالمال العام والوظيفة العامة وكأنها ملك شخصي، كما أن هذه الثقافة لا تُعيب على النافذين من أن يبيعوا ولائهم للحاكم أو الدول الأخرى، وتعتبره فعل من أفعال الشطارة. ولهذا كله يسهل على الحاكم شراء ولاء وسكوت أفراد الغالبية العظمى من الطبقة النافذة بأثمان بخسة.

عندما أجبر صالح على الخروج من السلطة، كان إنتاج شبكة الكهرباء الحكومية لا يزيد عن 600 ميجا/ساعة (أقل من ربع إنتاج مملكة البحرين) ولم يتم تنفيذ أي منشأة إستراتيجية بأموال حكومية، فكل المنشآت العامة مثل المستشفيات والطرق والسدود التي تزيد تكلفتها عن بضعة ملايين من الدولارات، تم إنشائها عبر المنح والقروض الخارجية. ويرجع السبب في ذلك إلى أن الدولة اليمنية الحديثة تعودت أن يكون العالم الخارجي مسؤولاً عن برامج التنمية، وليس الحكومة. 

الرئيس السابق صالح كان، حين يجتمع بالمواطنين ويطالبونه بمشاريع خدمية، يرد بأنه سيوجه وزارة التخطيط للبحث عن ممولين خارجيين. أما الرئيس الذي خلفه فقد تجاوزه في هذه النقطة بمراحل. فقد تفتقت عبقريته عن حل أكثر نجاعة، حيث صرح بأن مشاكل اليمن التنموية والخدمية يمكن حلها من خلال توزيع كل مشكلة من مشاكل اليمن على الدول المانحة ليحلوها. فبحسب خطته "الرهيبة" فإن الدولة (أ) تتولى مسؤولية حل مشكلة الكهرباء، والدولة (ب) تتولى حل مشكلة التعليم، والدولة (ج) تحل مشكلة المياه، والدولة (د) تحل مشكلة الصحة، ووفق هذه الخطة التي لا تخطر على عقل بشر، ستُحل كل مشاكل اليمن؛ فيما رئيسها سيعيش سعيدا هو وعائلته ووزرائه في قصور وفنادق الخارج.   

شفرة حكم صالح تطورت في عهد سلفه (هادي) وأصبحت أكثر فاعلية حين أضاف قواعد جديدة، غفل عنها سلفه، وأستطاع أن يضمن لنفسه الولاء من الطبقة النافذة، رغم أنه يفتقر إلى أي مؤهلات ذاتية لشغل أي وظيفة عامة، ناهيك عن منصب رئيس الدولة. وكان من أهم ما قام به:

  • تعيين قادة الأحزاب ،التي كانت تعارض صالح، مستشارين له، و إغداق الأموال العامة لهم، وتوزيع حصص من الفساد عليهم، وهو بذلك أغلق على نفسه باب إزعاجهم، والمعارضة التي كانت تدعيها، ولو استخدم صالح هذه القاعدة لحكم حتى اليوم.

  • التماهي مع أصحاب المشاريع الصغيرة أو السكوت عما تفعله، كالانفصاليين، والحوثيين، وغيرهم. فصالح كان يحكم من خلال يمن واحد، أما هادي فإنه حكم ويحكم من خلال يمن مفكك، تسوده الفوضى.

  • الارتماء في حضن العالم الخارجي دون أي اعتبار للسيادة، أو الكرامة الشخصية، من أجل الحصول على الدعم لإبقائه في المنصب. 

ولكي لا يكون ما ذكرناه كلاماً مرسلاً، ساسرد بعض الحقائق التي تلخص هذا الوضع الكارثي التي تعيشه اليمن.

  • تقدر الموارد المتاحة للجمهورية اليمنية في الوقت الحالي بما يقارب المليارين دولار، يأتي أكثر من 70% منها من مبيعات النفط والغاز.

  • يحصل حزب الإصلاح، شريك هادي في السلطة، على ربع أو خُمس هذه الموارد يدير بها المناطق التي هي تحت سيطرته، وتحديدا محافظة مأرب وشبوه، ويمول بجزء منها نشاطات الحزب، وبهذه الحصة من الموارد، إضافة إلى المناصب والوظائف التي يحصل عليها حزب الإصلاح، ضمن هادي لنفسه تأييد أفضل الأحزاب اليمنية تنظيما، وأصبح الحزب عمليا هو التنظيم السياسي الذي يتكي عليه هادي، والذي يمنحه الغطاء السياسي والشرعية الزائفة.

  • يوزع هادي مرتبات شهرية، وهبات، للطبقة النافذة، والتي لا يزيد عدد أفرادها عن خمسة آلاف شخص، وإجمالي هذه المبالغ لا تزيد عن 150 مليون دولار في السنة. ويشتمل هؤلاء على: المؤيدين له من أعضاء مجلس النواب والشورى، والوزراء والمستشارين، والمحافظين، ونواب ووكلاء الوزراء ومدراء عموم الوزارات والهيئات الحكومية والإعلاميين، وشيوخ قبائل وموظفين حكوميين سابقين. ومن خلال هذا المبلغ ضمن هادي ولاء وسكوت هؤلاء عن فساده وفشله في إدارة الدولة واستباحتها من قبل الخارج.

  • سلم هادي أمور اليمن للعالم الخارجي، وتحديدا السعودية، والتي ضمنت له الاعتراف الخارجي.

يعيش هادي، الذي لم يعد لديه أي شرعية للحكم سوى الدعم السعودي وسكوت الطبقة النافذة التي اشتراها، يعيش هو وأسرته، في بحبوحة يحسده عليها ملوك أوربا، فهو عمليا بدون مهام يومية، ولا يخشى على نفسه من ثورة أو انقلاب أو احتجاجات في باب قصره العامر، وتحت تصرفة دخل شهري بعشرات الملايين من الدولارات. ومن المفارقات أن هذا الرئيس يمتلك طائرة خاصة يستخدمها مرة في السنة، تكلف إدارتها وصيانتها مبلغ لا يقل عن 2 مليون دولار في السنة.

 في المقابل يعيش أكثر من 80% من شعبه في حالة من العوز والفقر القريب من المجاعة الظاهرة، والتي لم يمنعها إلا صدقات العالم الخارجي. وخلال حكمه الكارثي لليمن أصبحت اليمن الدولة الفاشلة الأولى في العالم. فبسبب هذا الرئيس فقدت اليمن مقوماتها كدولة حقيقية، فلم يعد هناك من سيادة لليمن بعد أن أباحها للعالم الخارجي الذي يتحكم بها بشكل مذل. وأصبحت مناطق اليمن تُحكم من قبل المليشيات وأمراء الحرب، المدعومين من الخارج. وتدمر اقتصادها الضعيف، وحُرم معظم الموظفين الحكوميين من رواتبهم الزهيدة منذ بضعة سنوات، وتشرد وهُجر أكثر من أربعة مليون من مواطنيها. 

باختصار شديد ليس هناك دولة في العالم أسوأ من اليمن، في الوقت نفسه ليس هناك من حركة معارضة من قبل الطبقة السياسية أو الفكرية، بأي شكل من الأشكال، باستثناء معارضة المليشيات الحوثية، تطالب بعزل رئيسها ومحاكمته على الجرائم الهائلة التي ارتكبها ولا زال يرتكبها، وإنهاء التدخل الخارجي وإعادة السيادة والاستقلال الكامل لليمن. 

وكلمة السر تكمن فيما ذكرنا؛ فالنافذين والقادرين على تحريك الناس، والذين لا يتجاوز عددهم 10 ألف شخص، وينتفع منهم مئات الألوف من اليمنيين المحظوظين، قد تم شرائهم من قبل (هادي) ومن الدول الأجنبية.

فمتى سيفيق أكثر من 30 مليون من ضحايا هذا الحكم ليكنسوه مع الخراف الذي يطعمها؟ السؤال هذا نوجهه لليمنيين وللزمن.