د. مروان الغفوري

د. مروان الغفوري

حرب أهلية، أم حرب ضد الإرهاب؟

2016-01-05 الساعة 23:01


 

"استخدام السلاح، أو التهديد باستخدامه، لتحقيق أهداف سياسية أو دينية أو إثنية" هو الإرهاب. يقع هذا التعريف، بالكيفية إياها، في جوهر أدبيات القوات المسلحة الأميركية، لكن البيت الأبيض يتجاهله كما يذهب تشومسكي. إحدى الوثائق الدبلوماسية المسربة، تعود إلى العام ٢٠٠٩، قالت على لسان هيلاري كلينتون إن السعودية تمثل أكبر داعم للجماعات الإرهابية السنية في العالم. الاتحاد الأوروبي، على الضفة الأخرى، أصدر تقريراً في ٢٠١٣، أشار فيه إلى أن استثمارات السعودية على المشاريع الدينية الوهابية في جنوب وجنوب شرق آسيا بلغت عشرة مليارات دولار، ذهب جزء كبير منها إلى جماعات إرهابية مثل لشكر طيبة. ومع نهاية خريف ٢٠١٥ أسست المملكة العربية السعودية لتحالف دولي ضد الإرهاب شمل ٣٤ دولة مسلمة، مستثنياً أندونسيا الديموقراطية، ذات الـ ١٨ ألف جزيرة وعدد من السكان المسلمين يتجاوز عدد مسلمي الشرق الأوسط.

الأوتوقراطيون الذين قرروا، تلفونياً، مكافحة الإرهاب تركوا الدولة الديموقراطية الأكبر خلف ظهورهم. ربما كانت فكرة التحالف جيدة، لكن الرياض، مركز التحالف، لم تقرر بعد مراجعة نسختها القروسطية من التأويل الديني، كما يذهب الكاتب الهندي براهما تشيالاني، إذا كانت تفكر بالفعل بمحاربة الإرهاب.

في الواقع يمكن القول إن ثورة يوليو، في مصر، والثورة النفطية في السعودية هما اللتان أسستا لنوع مستدام من الإرهاب في الشرق الأوسط: الكهنوتية والديكتاتورية. كان البرادعي ذكياً وهو يقول، ثالث أيام الثورة المصرية، إنها ثورة ضد ٥٨ عاماً من الديكتاتورية. وضع البرادعي يده على التاريخ الصحيح، ربما، متوافقاً مع واحد من أهم المتخصصين في الشؤون المصرية، جون برادلي، في كتابيه عن الدولتين "مصر من الداخل، السعودية من الداخل". بحسب برادلي، والبرادعي أيضاً، فإن الثورة المصرية والملكية السعودية قد قوضتا أولى بذرات الممارسة السياسية والحكم البرلماني اللتين شوهدتا في الجزيرة العربية ومصر مطلع القرن الفائت.

الكهنوتية والديكتاتورية ليس بمقدورهما مكافحة الإرهاب، فهما أفضل أدوات استدعائه. لاحظ توماس فريدمان في ٢٠١٠ أنه من بين ٣٥ ألف معتقل في غوانتانامو لا يوجد معتقل واحد من الهند، رغم أن الدولة يعيش فيها أكبر تجمع للمسلمين في العالم. الديموقراطية، باعتقاد فريدمان، أتاحت وسائل أخرى للتعبير والاحتجاج.

بحسب تقرير لجيمس كلابر، مدير جهاز الأمن القومي الأميركي، يوجد في سوريا حوالي ١٥٠٠ جماعة مسلحة. الإرهاب السلطوي العنيف، ذو البعد الديني الطائفي/ القِطَاعي، في مواجهة خطاب الحرية والديموقراطية الذي نادت به الثورة السورية جعل من سوريا أكبر مدرسة للإرهاب على ظهر الكوكب. ليست الكتب المقدسة من أنتج الإرهاب في سوريا، بل الديكتاتورية هذه المرة. من اللافت أن الإعلام الألماني يلخص، من وقت إلى آخر، المسألة السورية على نحو شديد الكثافة: خرج المتظاهرون ينادون بالديموقراطية فأطلق النظام عليهم النار بذريعة إنهم إرهابيون. عادوا وحملوا السلاح ضد من أطلق عليهم النار بحجة أنه لم يعد شرعياً.

إرهاب الدولة لن يخلق استقراراً، والكهنوتية هي زيت الإرهاب الديني. كانت هيلاري كلينتون تسخر، في مذكراتها، من جملة سمعتها من الرئيس المصري السابق محمد مرسي. أخبرها مرسي إن الإرهاب في سيناء سينخفض مع وجود رئيس إسلامي في القاهرة. بحسب كلينتون فقد كانت تلك رؤية شديدة السذاجة للإرهاب. مرسي، من جهته، حاول على نحو حثيث تشغيل بعد آخر للإرهاب من خلاله عمله الدؤوب على إسناد الدولة إلى كهنوتية جديدة. عبر البرلمان أصر هو وحزبه على أن تكون ثمة مرجعية دينية عليا، واقترح الأزهر. بطريقة ما كان يريد أن يحول الدولة في مصر إلى حالة كالفينية، شبيهة بدولة جون كالفن في جنيف، قبل خمسة قرون. فرغ كالفن، تدريجيا، المجالس النيابية ثم الشارع من فاعليته مفسحاً المجال، على نحو متزايد، للسلطة الدينية. استغرقت جنيف، بعد ذلك، قرابة الثلاثة قرون لتستعيد عافيتها الجمهورية. لقد وقعت، تاريخياً، في واحدة من أسوأ مزالق الديكتاتورية والعنف طويل المدى. وذلك كان هو مشروع الرئيس مرسي على المدى الطويل. 
غير أن الديكتاتورية ليست الإجابة الصحيحة. كان راسل ميد، أحد أهم كتاب وول ستريت جورنال، واضحاً وهو يكتب قبل عامين: نعم، كنا نساند الإخوان المسلمين ولدينا الأسباب. وضع نصب عينيه ما اعتقد أنه جوهري في مسألة الصراع ضد الإرهاب: إفساح المجال للإسلام السياسي من أجل دفع الإسلام الجهادي إلى الحافة، ذلك سيترك للمحافظين والمحتجين فرصة للانخراط في العمل السياسي بدلاً عن العنفي. كذلك: لتقديم نموذج آخر لممارسة الفعل والاحتجاج والتأثير بدلاً عن طريق العُنف. شيء آخر: لحرمان دعاة العُنف من منطقهم الدائر حول فكرة "محاربة الإسلام" عبر القول: انظروا، الإسلاميون يخوضون السياسة، ويشاركون في المدينة والسلطة، لا أحد يستهدف الإسلام. 
الديموقراطية، بكل المعاني، هي الطريق الآمن. غير أن تلك الديموقراطية، في تقديري، لا بد أن يتوافر لها شرطان جوهريان: أن تكون ديموقراطية علمانية، لكي لا تنزلق إلى سلطوية كهنوتية. وأن تكون العلمانية ديموقراطية، في جوهرها، لكي لا تضل طريقها كما حدث في ألمانيا مع الاشتراكي القومي، حزب هتلر.

الصورة من اليمن، في مسألة الحرب على الإرهاب، هي خليط من كل الأشياء. فاليمن دولة يتحرك فيها الإرهاب الشيعي، الحوثيون، والإرهاب السني بالموازة، القاعدة. مساهمة القاعدة، وصورها الأخرى، في المشهد اليمني ضئيلة للغاية. المفارقة في الحالة اليمنية أن حجم الإرهاب السني يبدو مجهرياً في مقابل الإرهاب الشيعي، رغم النسبة الصغيرة للطائفة الشيعية/ الزيدية. هي حربٌ هجينة تقاتل فيها كل الجهات معاً: حرب الدولة ضد المتمردين، حرب المقاومة ضد الثورة المضادة، حرب التحالف العربي ضد الانقلابيين، حرب الجماعات الإرهابية ضد أجهزة الدولة، حرب المؤتمر الشعبي العام ضد الناصريين، حرب الإخوان المسلمين ضد بروكسي إيران، وحرب الإمارات ضد الإخوان المسلمين، والحرب السلفية ضد الرافضة. هذه الصورة الهجينة جرى امتصاصها، على نحو ذكي، من خلال التأسيس المتسارع لنواة الجيش الوطني الجديد، ودخول القوات العربية إلى الأراضي اليمنية. كتبتُ أكثر من مرة: لو تأخر التدخل العسكري العربي لذهب اليمنيون لتشكيل "كتائب القعقاع". لكنهم بعد تسعة أشهر من الحرب شكلوا اللواء ١٠١، والمنطقة العسكرية الخامسة، وحافظوا على مكانهم خلف رئيس منتخب.

المثير، والمركزي في حرب اليمن، أن التدخل العربي حال دون أن تنزلق جبهة المقاومة إلى حالة الـ"١٥٠٠ جماعة مسلحة" التي شاهدناها في سوريا. حتى الساعة، وذلك هو الحظ الحسن الوحيد، استطاع الشعب الأشعث والأغبر أن ينظم نفسه على جبهة متماسكة مستنداً إلى شرعية سياسية وأخلاقية، وموقف أممي واضح. ذلك ما لم تحسن المقاومة السورية فعله، فاختلطت بجرعات مميتة من الإرهاب، تفككت إلى عشرات الحروب.

في حوار جنيف ٢ كان واضحاً أن المجتمع الدولي استوعب طبيعة الأزمة في اليمن وأعاد تعريفها على أساس: الانقلاب والدولة الشرعية. كان هذا الموقف الدولي، ربما، من أهم أسباب فشل جنيف ٢. فلم يسمع وفد الحوثيين وصالح سوى تلك المطالبات التي يرميها المجتمع الدولي، عادة، في أوجه المتمردين: اخرجوا من المدن، ارفعوا الحصار، أعيدوا السلاح، التزموا بالدستور والتوافقات السياسية المحلية. 
بالموازاة، يحتفظ اليمنيون بتعريفهم للنسخة اليمنية من التمرد: فهو عمل مسلح، عنيف وواسع، ضد حكومة توافقية ورئيس منتخب. وكليا يستند ذلك العنف إلى نظرية دينية. إنه الإرهاب في نسخة غير سنية، هذه المرة.

 

*عن / المصري اليوم