علي أحمد العمراني

علي أحمد العمراني

دورات التطرف من اليسار إلى اليمين.. وما ذا بعد ..؟

2015-12-05 الساعة 18:12

 

في شبابنا المبكر وما قبله لم يكن يسمع أحد بمشكلة تتمثل في التطرف المستند إلى الدين أو ما يسمى الان التطرف الديني.. كان التطرف الذي يتحدث عنه الناس يساريا غير متدين وأكثر مرجعياته قادمه من وراء الحدود والبحار ، وكان ملحدا أحيانا ويستهجن التدين، وغالبا ما كان يوصم الدين والتدين بالرجعية والخنوع والجبن والوهن ..

في ذروة الزخم اليساري بدا بعض دعاة الإسلام الحركي في موقف دفاع ، وكتب بعضهم عن "الإشتراكية في الإسلام" مثل مصطفى السباعي ..كان ذلك عنوان كتاب في الحقيقة ..

ونتيجة للزخم اليساري كانت كثير من الدول العربية المحافظة تحاول التقرب من بعض رموز اليسار وقادته، خاصة اليسار القومي المعتدل ، وإن كان بحذر وتوجس، مثل حالة شمال اليمن في عهد الإمام أحمد مع مصر عبد الناصر ..

وهناك من ناصب اليسار المتشدد العداء التام مثل حالة السعودية مع نظام الحكم اليساري المتشدد في جنوب اليمن..

بدا الدين مهادنا لمدة طويلة حتى مع الاستعمار الغربي المباشر في أكثر من بلد عربي وإسلامي .. وغالبية الثورات التي تصدت للمستعمرين كانت يسارية.. وقوض اليسار الثوري حكومات عربية عدة بحجة الرجعية والفساد والإستبداد وحل محلها، ثم تغير حال تلك الحكومات التي نشأت يسارية، مع الزمن، الى حكومات فاشية يسيطر عليها العسكر وتتسم باستبداد وفساد تاريخي منقطع النظير..وفي الحقيقة نشأت تلك الحكومات في مجملها عسكرية .. وظهر قادتها الأُوَل بدرجة ملحوظة من النزاهة خاصة في جانب الإدارة والمال وقضى معظم أولئك القادة فقراء ..

مثَٓل الجهاد في أفغانستان واندلاع الثورة الإسلامية في إيران بداية انحسار اليسار بشقيه المعتدل والمتشدد والإجهاز عليه ومثَٓل ذلك ذروة إهتمام الغرب بالإسلام الجهادي والحركي وكثر الحديث عنه في دوائر السياسة والإعلام وخاصة الغربية منها بما يوحي أنه الملاذ الوحيد للعرب والمسلمين، وتسارع انحسار اليسار المعتدل والمتشدد ..

منذ منتصف السبعينات استقطب الإسلام السياسي والحركي الكثير من الشباب النابهبن والنشطاء المتحمسين في البلاد العربية مثلما كان الحال في عهد المد اليساري بشقيه القومي والماركسي يستقطب النشطاء النابهبن والمتحمسين من شباب العرب ..

تطور الأمر مع الغرب من الترويج والتحالف مع الاسلام الحركي الجهادي في حرب أفغانستان، إلى العداء والمواجهة على أكثر من صعيد خاصة بعد 11 سبتمبر 2001 ..

منذ ذلك التاريخ تفاقم التطرف الديني حتى وصل مستوى بالغ من الرعب والدمار وأبرز من يمثل ذلك اليوم داعش...
اليمين الإسلامي موجود الان بشقيه المعتدل السياسي والمتطرف الجهادي ، وقد وصل الإسلام المعتدل الى الحكم عن طريق الانتخابات في بلد مثل المغرب ولا يزال يحكم الى الان وهناك حالة تونس ، وهناك دول تتصدى للإسلام الحركي دون تمييز بين معتدل ومتشد..

المؤكد أن التطرف الديني في منطقتنا سينحسر وهو ليس قدرا أبديا، ولن يطول به الزمن حتى يصير تاريخا.. لكن السؤال الكبير، ما الذي قد يأتي بعد، في حال استمرت أزمة العرب مستفحلة وفي حال استمرار شعور أجيال عربية متتالية بالغبن والضياع والهوان وتعرضها للكبت والقمع..؟

هناك إحتمالان أو مساران رئيسيان مستقبليان لتطورات ما يجري الان : إما سيفسر ما نحن فيه من معضلات وعنف عن معالجات ملفقة لقضايا المنطقة العربية ومنها قضايا الحكم والإقتصاد والحرية وقد يصاحب ذلك كمون وانتظار وترقب من قبل الشعوب ثم تأتي بعد ذلك موجة أو طوفان جديد أشبه بما نعاني منه الان وقد يكون أشد .. لكن المرجح أن لا تستند الموجة الثورية القادمة إلى الدين أو الطائفية إذا قدر لها أن تأتي، وقد لا تتكرر فيها أفكار واطروحات اليسار التقليدية..قد يأتي شيئ جديد مركب وقد يساعد التطور التقني والمعرفي القادم بأن يكون القادم موجه ثورية ذكية وحاسمة تنحو في اتجاه المستقبل والحداثة معتبرة من أخفاقات الماضي.. ولن يحول دون ذلك سوى توفر خيارات إصلاحية وحلول بناءة معقولة أخرى..

المسار الثاني : وهو أن يتوج انحسار العنف والتطرف الديني اليميني المقاتل، عند ما يفقد قوة اندفاعه ومقومات بقائه ، برشد وواقعية وخيال ومبادرات وتنازلات من قبل نخب السيطرة بإصلاح شامل وعميق وتحديث يلبي حاجات الانسان العربي في حكم رشيد يتسم بالنزاهة والشفافية والتنمية والعدل وحكم القانون بكل ما تعنيه الكلمة..

سبق وأشرت إلى كلام جيمس ولفنستون رئيس البنك الدولي السابق في مؤتمر حضرته في باريس 2003 ، حيث قال : ليس هناك تطرف إسلامي أو مسيحي أو يهودي ، لكن الامر متعلق بالأمل .. شباب العالم من أي دين وجنس ولون سوف يكونون متطرفين عندما ينعدم أمامهم الأمل والفرص .. بدا الرجل حينها وكأنه يدافع عن الإسلام والمسلمين بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 ..قال ايضا : ليس هناك من هو بمعزل ويمكنه النجاة بنفسه من أزمات مفصلية تحدث خلف البحار والحدود، والدليل 11 سبتمبر 2001..
ولفنستون يهودي أمريكي جدير بالإحترام حقاً، زار اليمن عام 2005 وحذر وقال : انتبهوا لبلدكم .. وضعكم خطير ... عندما تسقطون .. قد لا ياتي لنجدتكم أحد..!

وكالعادة، لم يكن هناك من هو مستعد للإستماع له أو لغيره..كان الصمم والغباء والفساد على أشده ثم أخذ يتعاظم ويتسارع ويتسابق ..

ومع ذلك هناك من استغرب ما حدث في 2011 .. مع أنه استحقاق طبيعي ونتيجة حتمية لأسباب يعرفها العالم وحذر منها كثيرا ..

غير أن الطامة الكبرى جاءت بعد خلط الأوراق وإعادة ترتيب و تركيب التحالفات واجتياح العاصمة ... قام بذلك فصيل ديني طائفي متطرف أهوج يستند الى تحالفات مع الثورة المضادة وترتيبات وتواطؤات أخرى .. ينطلق ذلك الفصيل أيضاً من فهم ديني معوج مثل غيره من التنظيمات المتطرفة ويزيد عليها أو يتميز عنها في دعاواه المستهجنة الغريبة عن العصر والمستقبل وأهمها أوهام الحق الإلهي الذي دحضه العالم قبل أكثر من قرنين.

نحن في اليمن جزء من المنطقة العربية مع خصوصية محدودة لا تشكل بالضرورة ميزة ..وكلما يحدث في اليمن والمنطقة من عنف وتطرف هو نتيجة لتخلف عميق متراكم دام قرون وخيبات متتالية ، وهناك من يتحدث عن ألف عام من التراجع لأمة كانت تشع حضارة وتنويرا ذات يوم مثلما تحدثت الأيكونوميست البريطانية في العام الماضي في مقال مطول بعنوان " ماساة العرب" ( The Tragedy of the Arabs) ..

ما لم يبادر بحلول عبقرية ويتم تبني مشاريع تتستوعب وتلبي تطلعات الشعوب في عالم متغير متسارع فقد تتكرر المأساة لاحقا في أشكال غير مألوفة، وغير متوقعة.. من كان قبل عقدين يتوقع تنظيمات مثل داعش أو عودة التفكير في الإمامة المتخلفة في اليمن..؟ ومن كان يتوقع قبل ذلك قيام دولة في جنوب الجزيرة العربية تستند إلى الفكر الماركسي..؟

نقطة البداية تكمن في أهمية توفر مستوى معقول ومسؤول من الحرية في المنطقة العربية وإجراء حورات معمقة بعيدا عن الإيديلوجيا المتعصبة ما أمكن، وعن العنف بشكل مطلق .. لكن قبل ذلك يجب أن يحل السلام ..

في حالة اليمن .. يتوجب استعادة الدولة أولا من قبضة المليشيات... كل المليشيات في النهاية...

في السبعين العام الأخيرة عرف العالم العربي دورتين أو موجتين من التشدد 
والتطرف بدأت باليسار وانتهت باليمين..

وكلا الحالتين تعبران عن أزمة أمة وحيرة أجيال وغياب مشاريع و أفكار خلاقة وخيبة نخب..

ليس بوسع المرء سوى التمني بأن لا تتكرر السياقات والحماقات والأخطاء التي تراكم خيبات الأمل وما ينتج عنها من عنف وويلات ومحن ..