د. مروان الغفوري

د. مروان الغفوري

الخطوة الثانية، الصحيحة..

2015-05-27 الساعة 19:16

كتب لي أحد الأصدقاء، وهو شاب ذكي يعتقد إن أحزاب اليمن مجرد قبائل للجبناء: "كنا نعتقد أن هادي قرر إزالة أسرة
صالح عن طريق الثورة. الحقيقة أنه أزالهم من طريقه". لأن مثل هذا الاستنباط الرياضي لا يمكن الجزم بدقته، ولا بهشاشته، فإني اضطررت إلى مجاراته في الاستنتاج. قلتُ له "يبدو إنه سيزيل الكثيرين من طريقه، وسيضل الطريق"..

تحدثت، قبل أيام، إلى سياسي مرموق يعرف هادي عن قرب. قال إن هادي مشغول بسؤال "مكاني في المستقبل".

إذا حاولنا التقاط الأنفاس وجلسنا على المقاعد مرّة أخرى سنفهم المشهد اليمني بصورة أفضل. تشكلت لجنة لكتابة الدستور. على المستوى النظري من المتوقع أن ينجز الدستور، والاستفتاء عليه، قبل نهاية العام. نظرياً، أيضاً، من المتوقّع أن تجري انتخابات رئاسية وبرلمانية بعد الاستفتاء على الدستور. لكي يبدو الأمر أكثر دقة من المتوقع أيضاً أن يدشن الدستور العهد السياسي الجديد: الانتقال إلى النظام البرلماني، سياسياً، وإلى الفيدرالية إدارياً. أي: تقليص المدى الذي تتحرك فيه مؤسسة الرئاسة.

هذه هي المعركة الحقيقية التي يفترض أن تخوضها القوى الحديثة. يجري على جانبي العملية السياسية حروب، انقلابات، اغتيالات، حصار للمدن، وتفكك للبنية السياسية المساندة للثورة "المشترك" ونهوض جديد للقوى السياسية المناهضة للثورة "نظام زمن صالح". بصرف النظر عن خطورة ما يجري ستبقى المهمة الرئيسية الآن هي كتابة الدستور، الاستفتاء عليه، والانتقال إلى العهد السياسي الجديد.

هادي، ومؤسسة الرئاسة،لا يؤيدون العجلة والخطو السريع. مع تعثر عملية الانتقال إلى العهد السياسي الجديد سيمدد للرئيس هادي، ولجهازه الأمني والعسكري. تجري عملية رياضية متسارعة بقيادته: في هذه الفوضى، في غياب المؤسسات، يدير هادي البلد عن طريق الشبكات. بعد زمن قصير ستكون شبكات هادي قد أصبحت معقّدة للغاية، لدرجة إنها ستمنع ظهور المؤسسات، أو ستهيمن عليها وتفرغها كلّياً.

المجتمع اليمني لا يزال في الماضي. القوى المدنية ميكروسكوبية الحجم، ومتصارعة. المشهد الكلي يمكن تخيله على شكل فراغات عملاقة سيملأها هادي بالشبكات. في غياب المدينة الكبيرة، والمؤسسة الشاملة سيتحرك النظام الجديد. لن تستغرق عملية بناء النظام الجديد وقتاً طويلاً، ففي المدى ما يكفي من القوى الراديكالية والطفيلية والانتهازية والمالية والإعلامية ومشرّدو التاريخ. بهؤلاء سيصنع هادي المزيد من الشبكات.

التغير الطفيف الذي حدث في المشهد السياسي هو تغيّر شكلاني. ذلك أن هادي قرر بناء نظامه، كما قرر نظام صالح العودة إلى الواجهة بوضوح. مؤخراً قرر المؤتمر الشعبي العام الإبقاء على صالح رئيساً للحزب، ورفض رئاسة هادي. حتى أولئك الذين كانوا قبل عام يعتقدون أنه من الأفضل أن يرأس هادي الحزب أصبحوا الآن من مؤيدي رئاسة صالح. بحسب أخبار اليوم فهم يفسرون تحول مواقفهم بسبب "غموض مواقف هادي"..

الطريق الصحيح هو كتابة الدستور والانتقال إلى نظام برلماني يقضي على الرئيس، أي رئيس. فمنذ معاوية بن أبي سفيان كانت الحروب الأهلية تدور حول منصب الرئيس وولي العهد. النظام الرئاسي في صورته العربية، والإسلامية، يقوم على فكرة تعزيز مؤسسة واحدة تلتهم في طريقها كل المؤسسات "واحدية المؤسسة". يصبح مجلس الوزراء، عادة، مجرّد مكتب فني بلا خيال. أما الرئيس، وبسبب ارتباطه الحتمي بقوى الاقتصاد والقوى التاريخية، فإنه يرقى عملياً إلى إمبراطور. القوى المحيطة به تضع في سلّته كل البيض، ثم تعمل معه على منع نشوء المؤسسة، أي تحول دون ظهور المستقبل.

كلما أوغلنا في المستقبل بلا خارطة صعد هادي خطوة في اتجاه الإمبراطور، وأحيط بالمزيد من الأسوار. 
يرتكب الاشتراكي في هذه اللحظة خطأ جسيماً إذا صحت تلك الأخبار التي تتحدث عن تخوفه من الإسراع في إنجاز الفترة الانتقالية وخوض أول انتخابات عامة. ربما كان يخشى، كما يعتقد، من عودة نظام صالح. أو كان يخشى من هيمنة حزب الإصلاح. تغيير النظام الانتخابي، والنظام السياسي إجمالاً، سيمنع استحواذ أي حزب مستقبلاً على أكثر من 40% من أصوات الناخبين، في أعلى تقدير. لا توجد استطلاعات جادة حتى الآن، لكن من غير المتوقع أن يحصد أي حزب في أي استطلاع رأي على أكثر من 40%. إذ لا يمكن تخيل أن واحداً من كل اثنين في تعز أو المهرة يؤيدون حزب الإصلاح، ولا المؤتمر. فالنسبة ستكون أقل من ذلك بكثير. هذا سيجعل لفكرة القائمة النسبية والنظام البرلماني معنى تاريخيّاً.

كان نعمان يتحدث قبل ستة أعوام عن نظام الانتخابات بالدائرة الفردية. ضرب مثالاً بدائرة يحصل فيها الناصري على 3 آلاف، والإصلاح على 4 آلاف والاشتراكي على 3 آلاف والمؤتمر على 5 آلاف. بناءً على هذه العملية الحسابية قال نعمان إن فوز المؤتمر بمقعد الدائرة سيعني أن أغلبية الناخبين في الدائرة ليس لديهم ممثل برلماني، بخلاف الأقلية "4 آلاف" التي حصلت على ممثلها البرلماني. أي أن انتخابات الدائرة الفردية قد يؤدي إلى فوز الأقلية!

لذلك يبدو تغيير النظام الانتخابي كليّاً أمراً حاسماً في طريق صناعة المستقبل. الموزاييك البربري الذي يهيمن على الصورة في اليمن بالإمكان ترويضه بالأنظمة الصارمة، كنظام انتخابي حديث، وتحويلها إلى حفلة تنوّع خلّاق. أي بالتراكم الإيجابي، التاريخي.

يفكر هادي بالمستقبل بعقليته الماضوية. بينما يرتجف الاشتراكي من المستقبل لأنه ينظر إلى الماضي. اما الإصلاح فهو لا يتحدث، إنه فقط متأهّب.

أما الحركة الثانية الصحيحة، في تقديري، فهي إنجاز كتابة الدستور والانتقال إلى النظام الفيدرالي، والانتخابات العامة. فضلاً عن ظهور أحزاب جديدة حيّة تستطيع النزول إلى الميدان والمنافسة على الحق في المستقبل. هذه الحركة الثانية صحيحة، وتبدو إجبارية، بصرف النظر عن الظلام والحروب والجوع الذي ينشره الأشرار على الجانبين من الطريق..